سلطان وظلال البنفسج الفصل الأول: قدوم العاصفة الهادئة

الفصل الأول: قدوم العاصفة الهادئة - سلطان وظلال البنفسج

سلطان وظلال البنفسج

الفصل الأول: قدوم العاصفة الهادئة


فيينا، النمسا - قبل أسبوعين

كانت رائحة القهوة النفاذة والكتب القديمة تملأ مكتب الدكتورة لينا نزار، لكنها لم تستطع طرد عبق اليأس الذي علق في رئتيها منذ قرأت التقرير. كانت لينا، بعينيها اللوزيتين الثابتتين وشعرها البني الداكن المربوط بإهمال، تجسيداً للانضباط العلمي. كانت تبلغ الثلاثين من عمرها، وتخصصها في طب الأوبئة للأطفال والأمراض النادرة، جعلها واحدة من أثمن الكنوز في منظمة "الأفق الطبي الدولي".

لكن هذا الصباح، كان التقرير الموضوع أمامها هو مصدر قلقها. إنه يتحدث عن تفشٍ غامض لحمى نزفية (عدوى فيروسية) بين أطفال منطقة تُعرف بـ "آزور"، وهي اتحاد قبلي شبه مغلق يقع على حدود جبلية نائية. السلطات المحلية، التي يقودها زعيم قوي وغامض، رفضت أي تدخل دولي بشكل قاطع.

"لن يسمح السلطان غيث لأي أحد بالدخول، لينا. خاصةً أنتِ. سمعته كالنار، لا يثق بأحد، ويعتبر أي تدخّل طبي هو تجسس." قالت لها مديرة البعثات، السيدة مارتا، بلهجة تحذير.

أغلقت لينا الملف بغضب هادئ. "إذاً، عليه أن يختار بين هيبته وحياة أطفاله." نظرت إلى مارتا بعزم لم يكن قابلاً للنقاش. "سأذهب. إن لم يسمح لي الوفد الرسمي بالدخول، فسأذهب بأي طريقة. هناك أطفال يموتون، وهذا هو الشر الحقيقي بالنسبة لي."


آزور، المملكة الجبلية - لحظة الوصول

بعد رحلة مضنية ومخادعة، استغرقت أياماً عبر طرق وعرة، وصلت لينا إلى تخوم مملكة آزور. لم تكن الطائرة تهبط في مدرج دولي، بل في منطقة عسكرية مغبرة. استقبلها صمت حاد وريح ساخنة.

كانت البيئة المحيطة صادمة للينا القادمة من فيينا المنظمة. المباني هنا قديمة لكنها صلبة، وكأنها بُنيت لتحمل حصاراً أبدياً. كان الهواء مشحوناً بالتوتر والقوة الخفية.

اقتيدت لينا مباشرة إلى "قلعة العمد"، مركز قيادة الزعيم. لم تكن القلعة متكلفة، بل كانت مهيبة، جدرانها من صخور المنطقة داكنة اللون.

وفي قاعة الاستقبال، التي كانت مزيجاً غريباً من الأثاث التقليدي الفخم والتقنية الأمنية الحديثة، كان يجلس السلطان غيث بن راشد.

كان مشهد غيث نفسه صدمة. لم يكن رجلاً مسناً متزمتاً كما تخيلت، بل كان شاباً لا يتجاوز منتصف الثلاثينات. ببنية قوية منحوتة، وعينين حادتين لا يبدو أنهما تفوتان شيئاً، كان جالساً على مقعد يشبه العرش، لا يرتدي زيّاً ملكياً، بل ملابس عملية داكنة تزيد من جاذبيته وخطورته. كانت الهيبة التي تلفه أشبه بسياج كهربائي.

دخلت لينا، بثوبها الطبي النظيف وبحقيبة أدواتها، تشعر بأنها قادمة من كوكب آخر.

لم ينهض غيث لاستقبالها. نظر إليها بنظرة باردة وساخرة، وكأنها حشرة تدخل مملكته.

"أهلاً بكِ في آزور، الطبيبة." قال غيث بصوت رخيم وقوي، يكسوه الجليد. "كنت أظن أن الغرب سيرسلون وفداً من العلماء، لا فتاة أتت لتوها من المختبر."

لم ترتبك لينا. وضعت حقيبتها على الطاولة بقوة خفيفة، وأقامت ظهرها، مواجهة إياه.

"أهلاً بك، يا سلطان." ردت لينا، مؤكدة على اللقب بلهجة محايدة تماماً. "كنت أظن أنني سأجد قائداً يركز على صحة شعبه، لا على تصنيف من يأتيه للمساعدة. اسمي الدكتورة لينا نزار، وأنا هنا لإنقاذ الأطفال الذين يموتون بسبب وباء لم تتعاملوا معه بنجاح."

ارتفعت زاوية فم غيث في ابتسامة خفيفة لم تصل إلى عينيه. كانت نظراته تفتشها من رأسها حتى قدميها، وكأنها قطعة أحجية غريبة.

"أنتِ وقوانينكِ الغربية لستم هنا. هنا، تحكمنا شروطنا." قال غيث، مائلاً قليلاً إلى الأمام، وهو يطرح ورقة على الطاولة. "شرطي الأول: تلتزمين ببروتوكولات آزور الأمنية والاجتماعية، وتعملين تحت إشراف حرسنا. شرطي الثاني: لا اتصال بالعالم الخارجي دون موافقة شخصية مني. شرطي الثالث: إذا أثبتِ فشلكِ في إيقاف المرض خلال أسبوع، ستُعادين من حيث أتيتِ فوراً."

شعرت لينا بنار الغضب تغلي في صدرها. إنه يعاملها كعميلة سرية أو أسيرة، لا كطبيبة.

"وشرطي أنا، يا سلطان غيث." قالت لينا بحدة لاذعة. "أن تتوقف عن استخدام السلطة والغطرسة في قرارات طبية بحتة. صحة هؤلاء الأطفال ليست مسألة أمن قومي، بل مسألة حياة أو موت. سأعمل بشروطي أنا: البروتوكولات الطبية العالمية فقط هي التي تحكمني."

ساد صمت طويل ومكهرب. كانت لينا تتحدى الرجل الذي يهابه الجميع، وعيناها البنيتان تثبتان على عينيه السوداوين الحادتين.

أخيراً، ضحك غيث ضحكة قصيرة لا تحمل أي بهجة.

"حسناً يا دكتورة." قال، وهو يقترب صوته من التهديد الخفي. "أنتِ عنيدة فعلاً. مرحباً بكِ في جحيم آزور."

لم تبتسم لينا. عرفت أن اللقاء الأول كان مجرد إعلان حرب هادئة بين سلطان القوة وطبيبة الحق.


قلعة العمد ومستشفى العزل

في صباح اليوم التالي، وجدت لينا نفسها في مستشفى عزل مؤقت أُقيم في إحدى الأجنحة الخلفية لقلعة العمد. لم يكن المكان مجهزاً بأحدث التقنيات كما اعتادت في فيينا، بل كان بسيطاً وقاسياً، تفوح منه رائحة مطهرات قوية ومزيج من الأعشاب المحلية.

كانت لينا ترتدي ملابسها الوقائية المعقمة، وشعرها مشدود بإحكام. بمجرد أن رأت الأطفال، تلاشى الغضب الذي تملَّكها أمام غيث، وحل محله تركيز طبي حاد ممزوج بـ ألم إنساني عميق. كانت هناك سبع حالات مؤكدة، جميعهم أطفال تتراوح أعمارهم بين السادسة والتاسعة. الحمى المرتفعة كانت هي السمة الغالبة، مصحوبة بطفح جلدي غريب ونزيف داخلي خفيف.

كان يعمل معها فريق محلي من الممرضين، لكنهم كانوا مترددين وخائفين. بدا عليهم أنهم اعتادوا على الوصفات التقليدية أكثر من الجرعات الدقيقة.

"ما هذا؟" سألت لينا وهي تشير إلى مجموعة من الخيوط الملونة المربوطة حول معصم طفلة صغيرة.

أجابها الممرض المسؤول، وهو رجل كبير في السن اسمه "عماد"، بخفض صوت: "هذه تعاويذ الأمان، يا دكتورة. تمنع الروح الشريرة من سحبها. هذه عاداتنا."

تنهدت لينا بحدة. العادات. هذا الجدار الصلب الذي يحاول غيث أن يفرضه بينها وبين عملها.

"يا عماد، إزالة هذه الأشياء هي بروتوكول أساسي لتجنب العدوى وتسهيل فحص الأوردة. أنا أحترم عاداتكم، ولكن حياتهم هي الأهم. هذه مجرد خيوط، وليست مضادات حيوية."

في تلك اللحظة، دخل غيث بن راشد إلى الغرفة، يتبعه حارسه الشخصي الضخم. لم يكن يرتدي ملابس طبية، بل كان منظره في ملابسه الجلدية والتقليدية يشبه قائداً يدخل ساحة معركة. توقف الجميع عن الحركة.

"ماذا يجري هنا؟" سأل غيث بصوت حازم، ينظر إلى لينا وعينيها مشتعلتان بالضجر.

"هذا ما يجري." قالت لينا بحدة، وهي تخلع قفازيها وتقف أمامه مباشرة. "أطفالك يموتون، وسوف يموتون أسرع إذا سمحت لهذه الخرافات أن تسيطر على العلاج. إنهم يضعون خيوطاً متسخة على أجسادهم ويمنعونني من أخذ عينة دم بشكل صحيح لأن التعويذة يجب ألا تُنزع. هل هذا هو بروتوكول آزور الذي تحدثت عنه؟ أن نعالج المريض بالخرافة ونحن على بعد أيام من موت جماعي!"

لم يصرخ غيث، بل همس ببرودة كانت أكثر رعباً من الصراخ. "احذري من لسانكِ، يا دكتورة. هذه معتقدات الناس. لن تُحدثي بلبلة في مملكتي لأنكِ لا تفهمين تراثنا."

"أنا هنا لأفهم المرض، لا التراث!" ردت لينا، وشعرت بأنها تخاطر بكل شيء، لكن غضبها على عدم احترام حياة الأطفال فاق خوفها. "أعطني الصلاحية الكاملة لتطبيق بروتوكولات العزل والتحليل، وإلا فسأغادر. وسأُخبر العالم أن زعيم آزور فضّل خيوط ملونة على إنقاذ أطفال عشائره!"

ارتجف وجه غيث للحظة. هذه المرأة لا تخاف. إنها لا ترى فيه إلا عقبة بينها وبين واجبها.

"هل أنتِ واثقة من قدرتك على إيقاف هذا المرض؟" سأل غيث، وهو ينظر بعمق في عينيها. كان السؤال هذه المرة سؤال قائد يبحث عن حل لا عن عدو.

"أنا واثقة من أنني أستطيع تحديد هويته، ثم علاجه." قالت لينا، دون تردد. "لكن يجب أن تمنحني السلطة الطبية المطلقة في هذه الغرفة. أنت القائد هنا، لكنني القائدة الطبية الوحيدة."

ظل غيث يحدق بها لثوانٍ بدت كأنها ساعة. كان الصراع الداخلي واضحاً في عينيه: ثقته بنفسه مقابل الخوف على مستقبله إذا تفشى الوباء.

"حسناً." قال غيث أخيراً، بصوت مبحوح. "من الآن فصاعداً، كلمتها هي القانون في هذه الغرفة فقط. أي شخص يعترض عليها يعترض عليّ شخصياً. ولكن اعلمي يا لينا نزار، إن فشلتِ، سيكون حسابكِ معي أشد من حساب الغرباء."

خرج غيث وغادر القاعة، تاركاً وراءه صمتاً مهيباً. نظر عماد والممرضون إلى لينا، التي رفعت قفازيها المعقمين مرة أخرى.

"هيا بنا." قالت لينا. "نحتاج عينات دم وسوائل الآن، بسرعة. يجب أن نعرف مع من نتعامل."


الليل والغموض الأول

عملت لينا بلا توقف لمدة 36 ساعة. كانت تحاول تحليل العينات المعقدة في مختبر المستشفى البدائي.

في وقت متأخر من الليل، وبعد أن أخمدت الحمى لدى طفلين بشكل مؤقت، كانت لينا منهكة وتتناول وجبة سريعة وحيدة. سمعت خطوات تقترب. كان غيث.

"أنتِ لم تنامي." قال غيث، صوته أقل حدة هذه المرة.

"والأطفال لم يتعافوا." ردت لينا وهي تمسح وجهها. "التحليل الأولي غريب. إنه ليس سلالة معروفة. قد تكون طفرة جديدة، أو قد يكون... عملاً مدبّراً."

هذه الكلمة الأخيرة ألقت ظلالاً من الجليد على وجه غيث.

"ماذا تقصدين بـ 'عملاً مدبّراً'؟" سأل غيث، يقترب منها، وكل حواسه متيقظة.

"هذا المرض شديد الانتقائية. يصيب الأطفال فقط، وهناك تركيزات عالية منه في مناطق محددة جداً في أراضي آزور. ليس كل الأوبئة طبيعية، يا سلطان. قد يكون سلاحاً بيولوجياً فاشلاً أو مستهدفاً."

صمت غيث، وبدا على وجهه الذكي أنه يربط الخيوط. هذا التفسير يتناسب مع نظرته الأمنية للأمور.

"لقد طلبت تقارير عن شحنات غريبة دخلت البلاد قبل ثلاثة أسابيع. أين هي؟" سأل غيث بحدة.

"لم تصلني أي تقارير يا سلطان." قالت لينا، وهي تدرك أنها وصلت للتو إلى الجانب المظلم من حكمه. "أنت تُخفي عني المعلومات الأمنية الضرورية لعملي."

نظر غيث إليها ببطء، وفي عينيه مزيج من الشك والإعجاب لقدرتها على الربط بين الطب والأمن.

"في آزور، يجب عليكِ أن تتعلمي شيئاً يا دكتورة." همس غيث. "في هذا المكان، كل شيء متصل ببعضه. كل مرض، كل غريب، كل خطوة... كلها خيوط في لعبة أكبر. أنا أحمي آزور، ولكنني لا أستطيع أن أُعطيكِ كل خيوطي... حتى تثبتي ولاءكِ."

نظرت إليه لينا بتمرد. "ولائي لمهنتي وحياة المرضى، يا غيث. ولن يتغير أبداً."

الصراع لم يكن طبياً فقط، بل بدأ يتحول إلى صراع على الثقة بين قائد يرى الخطر في كل وجه، وطبيبة لا ترى إلا النور في طريق الحق.

تعليقات